الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)} ولما انقضى ما أراهم سبحانه من الأفعال الهائلة التي استخلصهم بها من ذلك الجبار، شرع يذكر ما قابلوه به من الجهل به سبحانه وما قابلهم به من الحلم، ثم ما أحل بهم بعد طول المهلة من ضرب الذلة والمسخ بصورة القردة، فقال عاطفاً على قوله {فأغرقناهم في اليم} أو قوله {ثم بعثنا من بعدهم موسى}: {وجاوزنا} أي قطعنا بما لنا من العظمة- وساقه على طريق المفاعلة تعظيماً له، روي أن جوازهم كان يوم عاشوراء، وأن موسى عليه السلام صامه شكراً لله تعالى على إنجائهم وإهلاك عدوهم {ببني إسرائيل} بعد الآيات التي شاهدوها {البحر} وإنما جعلته معطوفاً على أول القصة لأن هذه القصص كلها بيان لأن في الناس السيئ الجوهر الذي لايغنيه الآيات كما مضى عند قوله: {والبلد الطيب} [الأعراف: 58] وبيان قوله {أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} [الأعراف: 94] إلى آخرها، ويدل على ذلك- مع ما ابتدئت به القصص- ختمها بقوله {ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا} [الأعراف: 176] وقوله: {ولقد ذرأنا لجهنم} [الأعراف: 179] وحسن موقعها بعد قوله: {وتمت كلمت ربك الحسنى} [الأعراف: 137] لأنه لما قيل {بما صبروا} تشوفت النفس إلى فعلهم حال الرخاء هل شكروا؟ فبين أن كثيراً منهم كفروا تصديقاً لقوله {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} [الأعراف: 102] وما شاكله، وما أحسن تعقيب ذلك- بقوله: {فأتوا} أي مروا- بفاء التعقيب {على قوم} أي ذوي قوة، قيل: كانوا من لخم {يعكفون} أي يدورون ويتحلقون ملازمين مواظبين {على أصنام لهم} أي لا قوة فيها ولا نفع، فهم في عكوفهم عليها مثل في الغباوة، وقيل: إنها كانت تماثيل بقر، وكان ذلك أول أمر العجل. ولما أخبر سبحانه بذلك، علم السامع أنهم بين أمرين: إما شكر وإما كفر، فتشوف إلى ما كان منهم، فأجاب سبحانه سؤاله بقوله: {قالوا} أي لم يلبث ذكرهم لما أراهم سبحانه من عظمته وشكرهم لما أفاض عليهم من نعمته إلا ريثما أمنوا من عدوهم بمجاوزتهم البحر وإغراقهم فيه حتى طلبوا إلهاً غيره بقولهم: {يا موسى} سموه كما ترى باسمه جفاء وغلظة اعتماداً على ما عمهم من بره وحلمه غير متأدبين بما بهرهم من جلالة حظه من الله وقسمه {اجعل لنا إلهاً} أي شيئاً نراه ونطوف به تقيداً بالوهم {كما لهم آلهة} وهذا منهم قول من لا يعد الإله- الذي فعل معهم هذه الأفاعيل- شيئاً، ولا يستحضره بوجه. ولما كان هذا منهم عظيماً، استأنف جواب من تشوف إلى قول موسى عليه السلام لهم ما هم بقوله: {قال إنكم قوم} أي ذوو قيام في شهوات النفوس، وقال: {تجهلون*} مضارعاً إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة، لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل، واعلم أنه لا تكرير في هذه القصص فإن كل سياق منها لأمر لم يسبق مثله فالمقصود من قصة موسى عليه السلام وفرعون- عليه اللعنة والملام- هذا الاستدلال الوجودي على قوله {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} [الأعراف: 102] ومن هنا تعلم أن سياق قصة بني إسرائيل بعد الخلاص من عدوهم لبيان إسراعهم في الكفر ونقضهم للعهود، واستمر سبحانه في هذا الاستدلال إلى آخر السورة، وما أنسب {وإذ أخذ ربك من بني آدم} [الأعراف: 172] الآية، لقوله {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} [الأعراف: 102] وذكر في أول التي تليها تنازعهم في الأنفال تحذيراً لهم من أن يكونوا من الأكثر المذمومين في هذه، هذا بخلاف المقصود من سياق قصص بني إسراءيل في البقرة فإنه هناك للاستجلاب للإيمان بالتذكير بالنعم، لأن ذلك في سياق خطابة سبحانه لجميع الناس بقوله: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} [البقرة: 28] وما شاكله من الاستعطاف بتعداد النعم ودفع النقم- والله أعلم. ولما استفيد من كلامه لهم غاية الإنكار عليهم، علل هذا الإنكار بقوله: {إن هؤلاء} أي القوم {متبر ما هم فيه} أي مكسر مفتت مهلك على وجه المبالغة، وإذا فسد الظرف فسد المظروف، وإليه الإشارة بجعل «هؤلاء» اسماً لإن، وإيلائه خبر الجمله الواقعه خبراً مقدماً على مبتدئه. ولما كان الشيء قد يهلك في الدنيا أو في الاخرة- وهو حق، أعملهم بأن هذا الهلاك إنما هو الهلاك عند الله أعلم من كونه في الدنيا أو في الآخرة لبطلان ما هم فيه، فقال معبراً بالاسمية إشارة إلى أنه الآن كذلك، وإن رئي بخلافه: {وباطل} أي مضمحل زائل {ما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يعملون*} أي مواظبين عليه من الأصنام والعكوف وجميع أعمالهم لأجله، لا وزن لشيء منها أصلاً ولا اعتبار، و- فيه إشارة إلى أن العبادة لا تنبغي إلا للباقي الذي لا يجوز عليه التغير، فإذا كان كذلك كان العمل له أيضاً ثابتاً باقياً لا يجوز عليه البطلان، وفي تعقيبها لتدمير آل فرعون إشارة إلى موجب ذلك، وأن كل من كان على مثل حالهم من عبادة غير الله كانت عاقبته الدمار. ولما كان هذا استدلالاً على أن مثل هذه الأصنام التي مروا عليها لا تصلح لأن تعبد، كان ذلك غير كاف لهم لما- تقرر من جهلهلم، فربما ظنوا أن غيرها مما سوى الله تجوز عبادته، فكأنه قيل: هذا لا يكفي جواباً لمثل هؤلاء فهل قال لهم غير ذلك؟ فقيل: نعم! {قال} منكراً معجباً {أغير الله} أي الذي له جميع العظمة، فهو المستحق للعبادة {أبغيكم} أي أطلب لكم {إلهاً} فأنكر أن يتأله غيره، وحصر الأمر فيه ثم بينه بقوله: {وهو} أي والحال أنه هو وحده {فضلكم} دون غيركم ممن هو في زمانكم أو قبله {على العالمين*} أي لو لم يكن لوجوب اختصاصهم له بالعبادة سبب سوى اختصاصه لهم بالتفصيل على سائر عباده الذين بلغهم علمهم ممن هو أقوى منهم حالاً وأكثر عدداً وأموالاً لكان كافياً. ولما أثبت أن الإلهية لا تصلح لغيره، وأن غيره لم يكن يقدر على تفضيلهم، وكان المقام للعظمة، وكان كأنه قيل إيذاناً بغلظ أكبادهم وقله فطنتهم وسوء مقابلتهم للمنعم: اذكروا ذلك، أي تفضيله لكم باصطفاء آبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وما تقدم له عندهم وعند أولادهم من النعم لا سيما يوسف عليه السلام الذي حكمه في جميع الأرض التي استذلكم أهلها؛ عطف عليه إشارة إليه قوله التفاتاً إلى مظهر العظمة تذكيراً بعظمة مدخوله: {وإذ} أي واذكروا إذ {أنجيناكم} أي على ما نحن عليه من العظمة التي أنتم لها عارفون، ولها في- كل وقت في تلك الآيات مشاهدون {من آل فرعون} وما أفضنا عليكم بعد الإنجاء من النعم الجسام وأريناكم من الآيات العظام تعرفوا أنا فضلناكم على جميع الأنام، ثم استأنف بيان ما أنجاهم منه بقوله: {يسومونكم} أي ينزلون بكم دائماً {سوء العذاب}. ولما كان السياق- كما مضى- لبيان إسراعهم في الكفر وشدة علوتهم في قوتهم وجلافتهم، وكان مقصود السورة إنذار المعرضين وتحذيرهم من القوارع التي أحلها بالماضين، بين سوء العذاب عادلاً في بيانه عن التذبيح- لأنه لا يكون عند الانذباح، وهو في الأصل لمطلق الشق- إلى التعبير بالقتل لأنه أدل على الإماتة وأهز، لأنه قد يكون على هيئة شديدة بشعة كالتقطيع والنخس والخبط وغير ذلك مع أنه لا بد فيه من تفويت ذلك فقال: {يقتلون} أي تقتيلاً كثيراً- {أبناءكم} ودل على حقيقة القتل بقوله: {ويستحيون}. ولما كان المعنى أنهم لا يعرضون للإناث صغاراً ولا كباراً، وكان إنكار ما يكون إبقاء النساء بلا رجال لما يخشى من الضياع والعار، وكان مظنة العار أكبر- عبر عنهن بقولة: {نساءكم} وتنبيهاً على أن قتل الأبناء إنما هو للخوف من صيرورتهم رجالاً لئلا يسلبهم واحد منهم أعلمهم به كهانهم ملكهم؛ وأشار إلى شدة ذلك بقوله: {وفي ذلكم} أي الأمر الصعب المهول {بلاء} أي اختبار لكم ولهم {من ربكم} أي المحسن إليكم في حالي الشدة والرخاء، فأنه أخفى عنهم الذي قصدوا القتل لأجله، وأنقذكم به بعد أن رباه عند الذي هو مجتهد في ذبحه {عظيم}.
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)} ولما ذكرهم بنعمة إنجاء الأبدان، أتبعها التذكير بأكبر منها إذ كانت لحفظ الأديان وصيانة جوهرة الإيمان بما نصب لهم من الشرع في التوراة، فقال معجباً من حالهم إذ كان في الإنعام عليهم بنصب الشرع الهادي لهم من الضلال واختصاص نبيهم بمزيد القرب بالمناجاة، وهم في اتخاذ إله سواه، لا نفع فيه أصلاً، ولا يرضى قلب أو عقل أن يعبده، عاطفاً له على ما سبق تعجيبه به منهم في قوله: {وجاوزنا ببني إسرائيل} [الأعراف: 138] {وواعدنا} أي على ما لنا من باهر العظمة {موسى ثلاثين} أي مناجاة ثلاثين {ليلة} أي عقبها {وأتممناها} أي المواعدة {بعشر} أي ليال، وذلك لأنه لما مضت ثلاثون ليلة، وهو شهر ذي العقدة فيما قيل، وكان موسى عليه السلام قد صامها ليلها ونهارها، أدرك من فمه خلوفاً فاستاك، فأعلمه الله أنه قد أفسد ريح فمه، وأمره بصيام عشرة أيام أخرى و- هي عشر ذي الحجة ليرجع ما أزاله من ذلك، وذلك لأن موسى عليه السلام كان وعد بني إسرائيل- وهو بمصر- أنه إذا أهلك سبحانه عدوهم، أتاهم بكتاب من عنده فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما أهلك الله عدوهم سأل موسى عليه السلام الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوماً ثم أمره بالعشر. ولما كان من الممكن أن يكون الثلاثون هي النهاية، وتكون مفصلة إلى عشرين ثم عشر، أزال هذا الاحتمال- بقوله: {فتم ميقات ربه} أي الذي قدره في الأزل لأن يناجيه بعده- بالفاء {أربعين} ولما كانت العشر غير صريحة في الليالي، قال: {ليلة} فانتفى أن تكون ساعات مثلاً، وعبر بالميقات لأنه ما قدر فيه عمل من الأعمال، وأما الوقت فزمان الشيء سواء كان مقدراً أم لا، وعبر بالرب إشارة إلى اللطف به والعطف عليه والرحمة له، والميقات هو الأربعون- قاله الفارسي في الحجة، وقدر انتصاب أربعين ب «معدوداً هذا العدد» كما تقول: تم القوم عشرين، أي معدودين هذا العدد وأجمل سبحانه الأربعين في البقرة لأن المراد بذلك السياق تذكيرهم بالنعم الجسام والمتّ إليهم بالإحسان والإكرام، ليكون ذلك أدعى إلى رجوعهم إلى الإيمان وأمكن في نزوعهم عن الكفران بدليل ما سبق قصتهم من قوله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] {كيف تكفرون بالله} [البقرة: 28] وما اكتنفها أولاً وآخراً من قوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 40] الآيتين المبدوء بها والمختوم بها، وفصل هنا الأربعين إلى ثلاثين وعشر، لأن المراد بهذا السياق- كما تقدم- بيان كفرهم ومرودهم على خزيهم ومكرهم وأنه لم ينفعهم سؤال المعجزات، ولا أغنى عنهم شيئاً تواتر النعم والآيات، كما كان ذلك في قصص الأمم الخالية والقرون الماضية ممن ذكر في هذه الصورة استدلالاً- كما تقدم- على أن المفسد أكثر من المصلح- إلى غير ذلك مما أجمل في قوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها} [الأعراف: 94] إلى آخره، وتسلية لهذا النبي الكريم وترهيباً لقومه لما وقع لهم من العقاب الأليم، والفصل بين الساقين يدق إلا عن أولي البصائر- والله أعلم، فيكون المراد بتفصيل الأربعين هنا بيان أن إبطاء موسى عليه السلام عما علموه من المعياد إنما كان لعشرة أيام، فارتكبوا فيها هذه الجريمة التي هي أعظم الجرائم، وأشار تعالى إلى عظيم جرأتهم وعراقتهم في السفه بقوله عاطفاً على {واعدنا}: {وقال موسى} أي لما واعدناه {لأخيه} ثم بينه تصريحاً باسمه فقال: {هارون اخلفني} أي كن خليفتي فيهم تفعل ما كنت أفعل، وأكد الارتسام بما يجده له بقوله: {في قومي} وأشار إلى حثه على الاجتهاد بقوله: {وأصلح} أي كن على ما أنت عليه من إيقاع الإصلاح. ولما كان عالماً بأنه صلى الله عليه وسلم مبرأ من السوء غير أن عنده ليناً قال: {ولا تتبع} أي تكلف نفسك غير ما طبعت عليه بأن تتبع {سبيل المفسدين*} أي استصلاحاً لهم وخوفاً من تنفيرهم، فاختلفوا عن الطريق كما تفرس فيهم موسى عليه السلام ولم يذكروا عاقبة فلا هم خافوا بطش من بطش بمن كان يسومهم سوء العذاب، ولا هم سمعوا لأخيه في الصلاح، ولا هم انتظروا عشرة أيام، فلا أخف منهم أحلاماً ولا أشد على المعاصي إقداماً. ولما ذكر سبحانه مواعدته واحتياطه في إصلاح قومه، شرح أمره حال المواعدة وحالهم بعد غيبته فقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا} أي عند أول الوقت الذي قدرناه للمناجاة؛ ولما كان مقام الجلال مهولاً لا يستطاع وعي الكلام معه، التفت إلى مقام الإكرام فقال: {وكلمه} أي من غير واسطه {ربه} أي المحسن إليه بأنواع الإحسان المتفضل على قومه بأنواع الامتنان، والذي سمعه موسى عليه السلام عند أهل السنة من الأشاعرة هو الصفة الأزلية من غير صوت ولا حرف، ولا بعد في ذلك كما لا بعد رؤية ذاته سبحانه وهي ليست بجسم ولا عرض لا جوهر، وليس كمثله شيء، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سبحانه كلمه في جميع الميقات وكتب له الألواح، وقيل: إنما كلمه في أول الأربعين، والأول أولى. ولما كلمه بصفة الربوبية الناظر إلى العطف واللطف، وكانت الرؤية جائزة، اشتاق إلى الرؤية شوقاً لم يتمالك معه لما استحلاه من لذاذة الخطاب فسألها لعمله أنها جائزة {قال} مسقطاً الأداة كعادة أهل القرب- {رب أرني} أي ذاتك الأقداس بأن ترفع عني الحجاب فتجعلني متمكناً من النظر، وهو معنى قول الحبر ابن عباس: أعطني وحقق أنها رؤية العين بقوله في جواب الأمر- {أنظر} أي أصوب تحديق العين وأشار إلى عظمته سبحانه وعلو شأنه علو العظمة لا المسافة- بالتعدية بحرف النهاية بعد أن أشار بحذف أداة النداء إلى غاية القرب بالإحسان- فقال: {إليك} أي فأراك. ولما كان سبحانه قد قضى أنه عليه السلام لا يراه في الدنيا {قال} نافياً المقصود، وهو الرؤية لا مقدمتها، وهو النظر الذي هو التحديق بالعين {لن تراني} ودل سبحانه بهذه العبارة على جواز رؤيته حيث لو يقل: لن أرى، أو لن يراني أحد؛ ثم زاد ذلك بياناً بتعليقه بممكن فقال: {ولكن انظر إلى الجبل} إشارة جبل بعهده، وهو أعظم جبل هناك، وزاد في الإشارة إلى الرؤية بالتعبير بأداة الشك وإتباعها بأمر ممكن فقال-: {فإن استقر مكانه} أي وجد قراره وجوداً تاماً، وأشار إلى بعد الرؤية أيضاً وجلالة المطلوب منها بقوله: {فسوف تراني} أي بوعد لا خلف فيه {فلما تجلى ربه} أي المحسن إليه بكل عطاء ومنع وبين بتعبيره باللام أنه تجلى قربه وخصوصيته، ولو عبر بعلى مثلاً لكان أمر آخر فقال-: {للجبل} أي بأن كشف للجبل عما شاء من حجب عظمته {جعله دكاً} أي مدكوكاً، والدك والدق أخوان {وخر} أي وقع {موسى صعقاً} أي مغشياً عليه مع صوت هائل، فعلم أن معنى الاستدراك أنك لن تثبت لرؤيتي في هذه الدار ولا تعرف ذلك الآن، ولكنك تعرفه بمثال أريكه وهو الجبل، فإن الفاني- كما نقل عن الإمام مالك- لا ينبغي له أن يرى الباقي- {فلما أفاق} أي من غشيته {قال سبحانك} أي تنزيهاً لك عن أن أطلب منك ما لم تأذن فيه {تبت إليك} أي من ذلك {وأنا أول المؤمنين*} أي مبادر غاية المبادرة إلى الإيمان بكل ما أخبرت به كل ما تضمنته هذه الآيات، فتعبيره بالإيمان في غاية المناسبة لعدم الرؤية لأن شرط الإيمان أن يكون بالغيب، فقد ورد في نبينا صلى الله عليه وسلم آيتان: إحداهما يمكن أن تشير إلى الرؤية بالتعبير بالمسلمين دون المؤمنين في قوله {وأنا أول المسلمين} [المائدة: 163] والثانية تومي إلى عدمها وهي {آمن الرسول} [البقرة: 285] إلى قوله: {كل آمن بالله} [البقرة: 285]- والله أعلم-، وكل هذا تبكيت على قومه وتبكيت لهم في عبادتهم العجل وردع لهم عن ذلك، وتنبيه لهم على أن الإلهية مقرونة بالعظمة والكبر بعيدة جداً عن ذوي الأجسام لما يعلم سبحانه من أنهم سيكررون عبادة الأصنام، فأثبت للإله الحق الكلام والتردي عن الرؤية بحجاب الكبر والعظمة واندكاك الجبل عند تجليه ونصب الشرع الهادي إلى أقوم سبيل تعريضاً بالعجل، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: {ألم يروا أنه لا يكلمهم} الآية. ولما منعه الرؤية بعد طلبه إياها، وقابل ذلك بمحاسن الأفعال والأقوال، تشوف السامع إلى ما قوبل به من الإكرام، فاستأنف سبحانه الإخبار بما منحه به تسلية له عما منعه وأمراً بشكره بقوله: {قال يا موسى} مذكراً له نعمه في سياق دال على عظيم قدرها وإيجاب شكرها مسقطاً عنه مظهر العظمة تأنيساً له ورفقاً به- {إني اصطفيتك} أي اخترتك اختياراً بالغاً كما يختار ما يصفى من الشيء عن كل دنس {على الناس} أي الذين في زمانك {رسالاتي} أي الآيات المستكثرة التي أظهرتها وأظهرها على يديك من أسفار التوارة وغيرها {وبكلامي} أي من غير واسطة وكأنه أعاد حرف الجر للتنبيه على ذلك، كما اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم على الناس عامة في كل زمان برسالته العامة وبكلامه المعجز وبتكليمه من غير واسطة في السماء التي قدست دائماً ونزهت عن التدنيس بمعصية. ولما كان ذلك مقتضياً لغاية الإقبال والنشاط، سبب عنه قوله: {فخذ ما آتيتك} آي مخصصاً لك به {وكن من الشاكرين*} أي العريقين في صفة الشكر المجبولين عليها.
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)} ولما انقضى ما أنسه سبحانه به لفت الكلام- في الإخبار لنا عن عظيم ما آتاه- لي مظهر العظمة، فقال مفصلاً لتلك الرسالة ومبيناً بعض ما كان من الكلام {وكتبنا} أي بعظمتنا {له في الألواح} عرفها لعظمتها تنبيهاً على أنها لجلالة ما اختصت به كأنها المختصة بهذا الاسم، وأعظم من هذا جعل قلب النبي الأمي لوحاً قابلاً لما يلقى إليه جامعاً لعلوم الأولين والآخرين {من كل شيء} أي يحتاجه بنو إسرائيل، وذلك هو العشر الآيات التي نسبتها إلى التوارة نسبة الفاتحة إلى القران، ففيها أصوال الدين وأصول الأحكام والتذكير بالنعم والأمر بالزهد والورع ولزوم محاسن الأعمال والبعد عن مساويها، ولذا قال مبدلاً: {موعظة وتفصيلاً} أي على وجازتها بما كانت سبباً {لكل شيء} أي لأنها- مع كونها أمهات وجوامع- مفصلة ترجع إليها بحور العلم وتنشق منها ينابيعها. ولما كان هذا هكذا، تسبب عنه حتماً قوله تعالى التفاتاً إلى خطاب موسى عليه السلام بخطاب التأنيس إشارة إلى أن التزام التكاليف صعب: {فخذها} أي الألواح {بقوة} أي بجد وعزيمة في العلم والعمل {وأمر قومك} أي الأقوياء على محاولة ما يراد {يأخذوا بأحسنها} كأنه سبحانه أطلق لموسى عليه السلام الأخذ بكل ما فيها لما عنده من الملكة الحاجزة له عن شيء من المجاوزة، ولذلك قال له {بقوة} وقيدهم بالأحسن ليكون الحسن جداً مانعاً لهم من الوصول إلى القبيح، وذلك كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر. ولما كان كأنه قيل: وهل يترك الأحسن أحد؟ فقيل: نعم، الفاسق يتركه، بل ويتجاوز الحسن إلى القبيح، بل وإلى أقبح القبيح، ومن تركه أهلكته وإن جل آله وعظمت جنوده وأمواله، قال كالتعليل لذلك: {سأوريكم دار الفاسقين*} أي الذين يخرجون عن أوامري إلى ما أنهاهم عنه فأنصركم عليهم وأمكنكم بفسقهم من رقابهم وأموالهم من الكنعانيين والحاثانيين وغيرهم من سكان الأراضي المقدسه لتعلموا أن من أغصبني وترك أمري أمكنت منه، وإنما ذكر الدار لئلا تغرهم منعتها إذا استقروا بها فيظنوا أن لا غالب لهم فيها بوعورة أرضها وشهوق جبالها وإحكام أسوارها، وإذا تأملت ما سيأتي في شرح هذه الآيات من التوراة لاح لك هذا المعنى، وكذا ما ذكر من التوراة عند قوله في المائدة {قل هو أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله} [المائدة: 60] وفي هذه الجملة المختصرة بشارة يإتمام الوعد بنصرتهم عليهم بطاعتهم ونذارة على تقدير معصيتهم، فكأنه قيل: إن أخذوا بالأحسن أريتهم دار الفاسقين، وأتممت عليهم النعمة ما دامو على الشكر، وإن لم يأخذوا أهلكتهم كما أهلك الفاسقين من بين أيديهم، فحذرهم لئلا يفعلوا أفعالهم إذا استقرت بهم الدار، وزالت عنهم الأكدار، ويؤيد كون المراد القدس لا مصر قراءة من قرأ: سأورثكم- من الإرث، لأنها هي المقصودة بإخراجهم من مصر وبعث موسى عليه السلام، ولا ينفي ذلك احتمال مصر أيضاً- والله أعلم. ولما انقضى ذلك، كان كأنه قيل: وكيف يختار عاقل ذلك؟ فكيف بمن رأى الآيات وشاهد المعجزات؟ فقال: {سأصرف عن آياتي} أي المسموعة والمرئية على عظمتها بما أشارت إليه الإضافة بالصرف عن فهمها واتباعها والقدرة على الطعن فيها بما يؤثر في إبطالها {الذين يتكبرون} أي يطلبون الكبر بما ليس لهم ويعملون قواهم فيه {في الأرض} أي جنسها الذي أمرت بالتواضع فيه. ولما كان من رفعه الله بصفة فاضلة فوضع نفسه موضعها ولم يهنها نظراً لما أنعم الله به عليه ومنحه إياه ربما سمى ذلك كبراً، وربما سمى طلبه لتلك الأخلاق التي توجب رفعته تكبراً، وليس كذلك وإن وافقه في الصورة، لمفارقته له في المعنى فإنه صيانة النفس عن الذل، وهو إنزال النفس دون منزلتها صنعة لا تواضعاً، والكبر رد الحق واحتقار الناس، ففي التقييد هنا إشارة خفية لإثبات العزة بالحق والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الصنعة وقوفاً على شرط العزم المنصوب على متن نار الكبر؛ قال الإمام السهروردي: ولا يؤيد في ذلك ويثبت عليه إلا أقدام العلماء الراسخين- قال تعالى احترازاً عنه ومدخلاً كل كبر خلا عن الحق الكامل: {بغير الحق} أي إنما يختار غير الأحسن من يختاره بقضائي الذي لا يرد وأمري العالي على أمر كل ذي جد فأزين لمن علمت خباثة عنصره ورداءة جوهره ما أريد حتى يرتكبوا كل قبيحة ويتركوا كل مليحة، فينصرفون عن الآيات ويعمون عن الدلالات الواضحات. ولما أخبر بتكبرهم في الحال، عطف عليه فعلهم في المآل فقال: {وإن يروا كل آية} أي مرئية أو مسموعة {لا يؤمنوا بها} أي لتكبرهم عن الحق {وإن يروا سبيل} أي طريق {الرشد} أي الصلاح والصواب الذي هو أهل للسلوك {لا يتخذوه سبيلاً} أي فلا يسلكونه بقصد منهم ونظر وتعمد، بل إن سلكوه فعن غير قصد {وإن يروا سبيل الغي} أي الضلال {يتخذوه سبيلاً} أي بغاية الشهوة والتعمد والاعتمال لسلوكه. ولما كان هذا محل عجب، أجاب من يسأل عنه بقوله: {ذلك} أي الصرف العظيم الذي زاد عن مطلق الصرف بالعمى عن الإيمان واتخاذ الرشاد {بأنهم} أي بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة {وكانوا عنها} أي خاصة جبلة وطبعاً {غافلين*} أي كان دأبهم وديدنهم معاملتهم لها بالإعراض عنها حتى كأنها مغفول عنها فهم لذلك يصرون على ما يقع منهم. ولما ذكر أحوال المتكبرين الذين أداهم كبرهم إلى التكذيب في الدنيا، ذكر أحوالهم في الآخرة فقال: {والذين} أي كذبوا بها والحال أن الذين {كذبوا بآياتنا} أي فلم يعتبروا عظمتها {ولقاء الآخرة} أي ولقائهم إياها أو لقائهم ما وعدوا به فيها، اللازم من التكذيب بالآيات الحامل التصديق بها على معالي الأخلاق {حبطت} أي فسدت فسقطت {أعمالهم} والآية من الاحتباك: إثبات الغفلة أولاً يدل على إرادتها ثانياً، واللقاء ثانياً يدل على إرادته أولاً. ولما كان كأنه قيل: لم بطلت؟ قيل: {هل يجزون إلا ما} أي جزاء ما {كانوا يعملون} أي بإبطال أعمالهم وإن عملوا كل حسن سوى الإيمان بسبب أنهم أبطلوا الآيات والآخرة بتكذيبهم بها، أي عدوها باطلة، والجزاء من جنس العمل، والحاصل أنهم لما عموا عن الآيات لأنهم لم ينظروا فيها ولا انقادوا مع ما دلت عقولهم عليه من أمرها، بل سدوا باب الفكر فيها؛ زادهم الله عمى فختم على مداركهم، فصارت لاينتفع بها فصاروا لا يعون، وهذه الآيات أعظم زاجر عن التكبر، فإنها بينت أنه يوجب الكفر والإصرار عليه والوهن في جميع الأمور، ولما كان ذلك كله مما يتعجب الموفق من ارتكابه، أعقبه تعالى مبيناً ومصوراً ومحققاً لوقوعه ومقرراً قوله عطفاً على {فأتوا على قوم يعكفون} [الأعراف: 138] مبيناً لإسراعهم في الكفر: {واتخذ} أي بغاية الرغبة {قوم موسى} أي باتخاذ السامري ورضاهم، ولم يعتبروا شيئاً مما أتاهم به من تلك الآيات التي لم ير مثلها {من بعده} أي بعد إبطائه عنهم بالعشرة الأيام التي أتممنا بها الأربعين {من حليهم} أي التي كانت معهم من مالهم ومما استعاروه من القبط {عجلاً} ولما كان العجل اسماً لولد البقر، بين أنه إنما يشبه صورته فقط، فقال مبدلاً منه: {جسداً}. ولما كان الإخبار بأنه جسد مفهماً لأنه خال مما يشبه الناشئ عن الروح، قال {له خوار} أي صوت كصوت البقر، والمعنى أنه لا أضل ولا أعمى من قوم كان معهم حلي أخذوه ممن كانوا يستعبدونهم ويؤذونهم وهم مع ذلك أكفر الكفرة فكان جديراً بالبغض لكونه من آثار الظالمين الأعداء فاعتقدوا انه بالصوغ صار إلهاً وبالغوا في حبه والعبودية له وهو جسد يرونه ويلمسونه، ونبيهم الذي هداهم الله به واصطفاه لكلامه يسأل رؤية الله فلا يصل إليها. ولما لم يكن في الكلام نص باتخاذه إلهاً، دل على ذلك بالإنكار عليهم في قوله: {ألم يروا} أي الذين اتخذوا إلهاً {أنه لا يكلمهم} أي كما كلم الله موسى عليه السلام {ولا يهديهم سبيلاً} كما هداهم الله تعالى إلى سبيل النجاة، منها سلوكهم في البحر الذي كان سبباً لإهلاك عدوهم كما كان سبباً لنجاتهم؛ قال أبو حيان: سلب عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأن انتقاء التكليم يستلزم انتفاء العلم، وانتفاء الهداية إلى سبيل يستلزم انتفاء القدرة، وانتفاء هذين الوصفين يستلزم انتفاء باقي الأوصاف. ولما كان هذا أمراً عظيماً جداً مستبعد الوقوع ولا سيما من قوم نبيهم بينهم ولا سيما وقد أراهم من النعم والآيات ما ملأت أنواره الآفاق، كان جديراً بالتأكيد فقال تعالى: {اتخذوه} أي بغاية الجد والنشاط والشهوة {وكانوا} أي جلبة وطبعاً مع ما أثبت لهم من الأنوار {ظالمين*} أي حالهم حال من يمشي في الظلام، أو أن المقصود أن الظلم وصف لهم لازم، فلا بدع إذا فعلوا أمثال ذلك.
{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)} ولما كان هذا في سياق {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} فأنتج أن من كذب على هذه الصفة أهلك، فانتظر السامع الإخبار بتعجيل هلاكهم، أخبر بأنه منعهم من ذلك وحرسهم المبادرة بالتوبة، ولما اشتد من تشوف السامع إليه، قدمه على سببه وهو رجوع موسى عليه السلام إليهم وإنكاره عليهم، ولأن السياق في ذكر إسراعهم في الفسق لم يذكر قبول توبتهم كما في البقرة؛ ولما كان من المعلوم أنهم تبين لهم عن قرب سوء مرتكبهم لكون نبيهم فيهم، عبر بما أفهم أن التقدير: فسقط في إيديهم، وعطف عليه قوله سائقاً مساق ما هو معروف: {ولما سقط} أي سقطت أسنانهم {في أيديهم} بعضها ندماً سقوطاً كأنه بغير اختيار لما غلب فيه من الوجد والأسف الذي أزال تأملهم ولذلك بناه للمفعول {ورأوا أنهم قد ضلوا} أي عن الطريق الواضح {قالوا} توبة ورجوعاً إلى الله كما قال أبوهم آدم عليه السلام {لئن لم يرحمنا ربنا} أي الذي لم يقطع قط إحسانه عنا فكيف غضبه ويديم إحسانه {ويغفر لنا} أي يمحو ذنوبنا عيناً وأثراً لئلا ينتقم منا في المستقبل {لنكونن من الخاسرين*} أي فينتقم من بذنوبنا. ولما أخبر بالسبب في تأخير الانتقام عنهم مع مساواتهم لمن أوقعت بهم النقمة في موجب الانتقام، أخبر سبحانه بحال موسى عليه السلام معهم عند رجوعه إليهم من الغضب لله والتبكيت لمن خالفه مع ما اشتمل عليه من الرحمة والتواضع فقال: {ولما رجع موسى} أي من المناجاة {إلى قومه غضبان} أي في حال رجوعه لما أخبره الله تعالى عنهم من عبادة العجل {أسفاً} أي شديد الغضب والحزن {قال بئسما} أي خلافة خلافتكم التي {خلفتموني} أي قمتم مقامي وفعلتم مقامي وفعلتم خلفي. ولما كان هذا ربما أوهم أنهم فعلوه من روائه وهو حاضر في طرف العسكر، قال: {من بعدي} أي حيث عبدتم غير الله أيها العبدة، وحيث لم تكفوهم أيها الموحدون بعد ذهابي إلى الجبل للمواعدة الإلهية وبعد ما سمعتم مني من التوحيد لله تعالى وإفراده عن خلقه بالعبادة ونفي الشركاء عنه، وقد رأيتم حين كففتكم وزجرتكم عن عبادة غيره حين قلتم {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} ومن حق الخلفاء أن يسيروا سيرة المستخلف ولا يخالفوه في شيء. ولما كان قد أمرهم ان لا يحدثوا حدثاً حتى يعود إليهم، أنكر عليهم عدم انتظاره فقال: {أعجلتم} قال الصغاني في المجمع: سبقتم، وقال غيره: عجل عن الأمر- إذا تركه غير تام، ويضمن معنى سبق، فالمعنى: سابقين {أمر ربكم} أي ميعاد الذي ما زال محسناً إليكم، أي فعلتم هذا قبل بلوغ أمر الموعد الذي زاد فيه ربي وهو العشرة الأيام برجوعي إليكم إلى حده، فظننتم أني مت فغيرتم كما غيرت الأمم بعد موت أنبيائها، قال الإمام أبو عبد القزاز أيضاً: عجلتم: سبقتم، ومنه تقول: عجلت فلاناً سبقته، وأسنده ابن التياني إلى الأصمعي {وألقى الألواح} أي التي فيها التوراة غضباً لله وإرهاباً لقومه، ودل هذا على أن الغضب بلغ منه حداً لم يتمالك معه، وذلك في الله تعالى {وأخذ برأس أخيه} أي بشعره {يجره إليه} أي بناء على أنه قصر وإعلاماً لهم بأن الغضب من هذا الفعل قد بلغ منه مبلغاً يجل عن الوصف، لأنه اجتثاث للدين من أصله. ولما كان هارون عليه السلام غير مقصر في نهيهم، أخذ في إعلام موسى عليه السلام بذلك مخصصاً الأم وإن كان شقيقه- تذكيراً له بالرحم الموجبه للعطف والرقة ولا سيما وهي مؤمنه وقد قاست فيه المخاوف، فاستأنف سبحانه الإخبار عن ذلك بقوله: {قال ابن أم} وحذف أداة النداء وياء الإضافة لما يقتضيه الحال من الإيجاز، وفتح الجمهور الميم تشبيهاً له بخمسة عشر وعلى حذف الألف المبدلة من ياء الإضافة، وكسر الميم ابن عامر وحمزه والكسائي وأبو بكر عن عاصم بتقدير حذف ياء الإضافة تخفيفاً {إن القوم} أي عبدة العجل الذين يعرف قيامهم في الأمور التي يريدونها {استضعفوني} أي عدوني ضعيفاً وأوجدوا ضعفي بإرهابهم لي {وكادوا يقتلونني} أي قاربوا ذلك لإنكاري ما فعلوه فسقط عني الوجوب. ولما تسبب عن ذلك إطلاقه، خاف أن يمنعه الغضب من ثبات ذلك في ذهنه وتقرره في قلبه فقال: {فلا تشمت بي الأعداء} أي لا تسرهم بما تفعل بي فأكون ملوماً منهم ومنك؛ ولما استعطفه بالتذكير بالشماتة التي هي شماتة به أيضاً، أتبعه ضرراً يخصه فقال: {ولا تجعلني} أي بمؤاخذتك لي {مع القوم الظالمين*} أي فتقطعن بعدّك لي معهم وجعلي في زمرتهم عمن أحبه من الصالحين، وتصلني بمن أبغضه من الفاسدين الذين فعلوا فعل من هو في الظلام، فوضعوا العبادة في غير موضعها من غير شبهة ولا لبس أصلاً. ولما تبين له ما هو اللائق بمنصب أخيه الشريف من أنه لم يقصر في دعائهم إلى الله ولا ونى في نهيهم عن الضلال، ورأى أن ما ظهر من الغضب مرهب لقومه وازع لهم عما ارتكبوا، دعاء له ولنفسه مع الاعتراف بالعجز وأنه لا يسع أحداً إلا العفو، وساق سبحانه ذلك مساق الجواب لسؤال بقوله: {قال رب} أي أيها المحسن إليَّ {اغفر لي} أي ما حملني عليه الغضب لك من إيقاعي بأخي {ولأخي} أي في كونه لما يبلغ ما كنت أريده منه من جهادهم. ولما دعا بمحو التقصير، أتبعه الإكرام فقال: {وأدخلنا} أي أنا وأخي وكل من انتظم معنا {في رحمتك} لتكون غامرة لنا محيطة بنا؛ ولما كان التقدير: فأنت خير الغافرين، عطف عليه {وأنت أرحم الراحمين*} أي لأنك تنعم بما لا يحصره الجد ولا يحصيه العد من غير نفع يصل إليك ولا أذى يلحقك بفعل ذلك ولا تركه.
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)} ولما كان له ولأخيه وهما معصومان من الذنوب، طوى ما يتعلق بالمغفرة وذكر متعلق الرحمة بخلاف ما يأتي في السؤال له وللسبعين من قومه فإنه عكس فيه ذلك؛ ولما صحت براءة الخليفة، وأشير إلى أنه مع ذلك فقير إلى المغفرة، التفتت النفس إلى حال المفسدين فقال مخبراً عن ذلك: {إن الذين اتخذوا العجل} أي رغبوا رغبة تامه في أخذهم إلهاً مع المخالفة لما ركز في الفطرة الأولى ودعاهم إليه الكليم عليه السلام {سينالهم} أي بوعد لا خلف فيه {غضب} أي عقوبة فيها طرد أو إبعاد، ولعله ما أمروا به من قتل أنفسهم، واشار إلى انه فيه رفق بهم وحسن تربية لتوبة من يبقى منهم بقوله: {من ربهم} أي الذي لا محسن إليهم غيره، يلحقهم في الدنيا ويتبعهم في الآخرة {وذلة في الحياة الدنيا} أي جزاء لهم على افترائهم وكذلك من رضي فعلهم ولا سيما إن كان من أولادهم كقريظة والنضير وأهل خيبر {وكذلك} أي ومثل جزائهم {نجزي المفترين*} أي المعتمدين للكذب، وهذا نص في أن كل مفتر ذليل، كما هو المشاهد- وإن أظهر الجراءة بعضهم. ولما ذكر المصرين علىلمعصية، عطف عليه التائبين ترغباً في مثل حالهم فقال: {والذين عملوا السيئات} عبر بالعمل إشارة إلى بالعفو وإن أقدموا عليها على علم، وجمع إعلاماً بأنه لا يتعاظمه ذنب وإن عظم وكثر وإن طال زمانه، ولذلك عطف بأداة البعد فقال: {ثم تابوا} وحقق الأمر ونفى المجاز بقوله: {من بعدها} ثم ذكر الأساس الذي لا يقبل عمل لم يبن عليه على وجه يفهم أنه لا فرق بين أن يكون في السيئات ردة أو لا فقال: {وآمنوا} ثم أجاب المبتدأ بقوله: {إن ربك} أي المحسن إليك بقبول توبة التائبين لما سيرك من ذلك لأنك بهم رؤوف رحيم {من بعدها} أي التوبة {لغفور} أي محاء لذنوب التائبين عيناً وأثراً وإن عظمت وكثرت {رحيم*} أي فاعل بهم فعل الرحيم من البر والإكرام واللطف والإنعام، وكأن المصرين هم الذين قتلوا لما أمرهم موسى عليه السلام بقتل أنفسهم، فلما أهلك المصرّ وتاب الباقي، وصحت براءة أخية وبقاؤه على رتبته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاجتهاد في أمر الله، زال موجب الغضب فأخبر سبحانه عما يعقبه فقال: {ولما سكت} أي كف، شبه الغضب بمتكلم كان يحث موسى عليه السلام ويغريه على ما يوجبه ويقتضيه، فلما شفى غيظه سكن وقطع كلامه فخلفه ضده وهوالرضى {عن موسى الغضب} وهو غليان القلب بما يتأذى به النفس {أخذ الألواح} أي التي جاء بها من عند الله بعدما ألقاها {وفي} أي والحال أنه في {نسختها} أي الأمر المكتوب فيها، فعلة بمعنى مفعولة، وعن ابن عباس أنه لما ألقاها صام- مثل ما كان صام للمناجاة- أربعين يوماً أخرى، فردت عليه في لوحين مكان ما تكسر. {هدى} أي شيء موضح للمقاصد {ورحمة} أي سبب للإكرام {للذين هم لربهم} أي لا لغيره {يرهبون*} أي هم أهل لأن يخافوا خوفاً عظيماً مقطعاً للقلوب موجباً للهرب ويستمرون على ذلك. شرح ما في هذه الآيات من عند قوله {سأوريكم دار الفاسقين} من البدائع من التوراة- قال المترجم في السفر الخامس منها بعد أن بكتهم ببعض ما فعلوه مما أوجب لهم الغضب والعقوبة بالتيه وحثهم على لزوم أمر الله لينصرهم: وأما الوصايا التي آمركم بها اليوم فاحفظوها واعملوا بها لتحيوا وتكثروا وترثوا الأرض التي أقسم الله لآبائكم فتذكروا كل الطريق الذي سيركم الله ربكم فيه، ودبركم منذ أربعين سنة في البرية ليواضعكم ويجربكم وليعلم ما في قلوبكم هل تحفظون وصاياه أم لا، فواضعكم وأجاعكم وأطعمكم منّاً لم تعرفوه أنتم ولا آباؤكم ليبين لكم أنه ليس إنما يعيش الإنسان بالخبز فقط، بل إنما يعيش بما يخرج من فم الله، ولم تبل ثيابكم ولم تجف أقدامكم منذ أربعين سنة، احفظوا وصايا الله ربكم وسيروا في طرقة واتقوه، لأن الله ربكم هو الذي يدخلكم إلى الأرض المخصبة، أرض كثيرة الأدوية والينابيع والعيون التي تجري في الصحارى والجبال، أرض الحنطة والشعير، فيها الكروم والتين والرمان والزيتون والدهن والعسل، أرض لاتحتاجون فيها ولا تأكلون خبزكم بالفقر، ولا يعوزكم فيها شيء، أرض حجارتها حديد تستخرجون النحاس من جبالها، فاحتفظوا، لا تنسوا الله ربكم، واحفظوا وصاياه وشرائعه التي آمركم بها اليوم، لا تبطروا، فإذا أكلتم وشبعتم وبنيتم بيوتاً وسكنتموها وكثر غنمكم وبقركم وكثرت أموالكم فتعظم قلوبكم وتنسوا الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر وأنقذكم من العبودية ودبركم في البرية المرهوبة العظيمة حيث الحيات الحردات والعقارب وفي مواضع العطش وحيث لم يكن لكم ماء، أخرج لكم من ماء الظران، وأطعمكم منّاً لم يعرفه آبائكم ليواضعكم ويجربكم ويحسن إليكم آخر ذلك، وانظروا، لا تقولوا في قلوبكم إنا إنما استفدنا هذه الأموال بقوتنا وعزة قلوبنا، ولكن اذكروا الله ربكم الذي قواكم أن تستفيدوا هذه الأموال ليثبت العهد الذي أقسم لآبائكم، وإن أنتم نسيتم الله ربكم وتبعتم آلهة أخرى وعبدتموها وسجدتم لها أشهدت عليكم اليوم فأعلمتكم أنكم تهلكون هلاك سوء، كما أهلكت الشعوب التي أباد الرب بين أيديكم كذلك تهلكون، اسمعوا يا بني إسرائيل! بل أنتم تجوزون اليوم نهر الأردن وتنطلقون لتمتلكوا الشعوب التي هي أقوى وأعظم منكم وتظفروا بالقرى الكبار المشيدة إلى السماء وبشعب كبير عظيم بني الجبابرة، وقد علمتم وسمعتم أنه ما يقدر إنسان أن يقوم بين يدي الجبابرة، وتعلمون يومكم هذا أن الله ربكم يجوز أمامكم وهو نار محرقة، وهو يهلكهم ويهزمهم أمامكم، ولا تقولوا في قلوبكم إنه إنما أدخلنا الرب ليرث هذه الأرض من أجل برنا، لأنه إنما يهلك الرب هذه الشعوب من أجل خطاياهم، وليثبت الأقوال التي وعد بها آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاعلموا أنه ليس من أجل بركم يورثكم الله هذه الأرض المخصبة، لأنكم صلاب الرقاب، اذكروا ولا تنسوا أنكم أسخطتم الله ربكم في البرية منذ يوم خرجتم من أرض مصر حتى انتهيتم إلى هذه البلاد، ولم تزالوا مسخطين لله ربكم ونحوريت أيضاً أغضبتم الرب، وغضب الرب عليكم وأراد هلاككم حيث صعدت إلى الجبل وأخذت لوحي العهد الذي عاهدكم الرب، ومكثت في الجبل أربعين يوماً بلياليها لم أذق خبزاً ولم أشرب ماء، وأعطاني الرب لوحين من حجارة مكتوب عليهما بأصبع الله، وكانت كل الآيات التي كلمكم الرب بها من الجبل يوم الجمعة ومن بعد الأربعين، وأعطاني لوحي العهد، قال لي الرب: قم فانزل من هاهنا سريعاً، لأن شعبك الذي أخرجته من أرض مصر قد فسدوا ومالوا عن الطريق الذي أمرتهم عاجلاً، وعملوا لهم إلهاً مسبوكاً، وقال لي الرب: رأيت هذا الشعب فإذا هو شعب قاسي القلب، فدعني الآن حتى أهلكهم وأبيد أسماءهم من تحت السماء وأصيرك مدبراً لشعب أعظم وأعز منهم، وأقبلت فنزلت من الجبل والجبل يشتعل ناراً ولوحا العهد بيدي، ورأيت أنكم أذنبتم أمام الله ربكم سريعاً، وعمدت إلى لوحي الحجارة فرميت بهما من يدي وكسرتهما قدامكم، وصليت أمام الرب كما صليت أولاً أربعين يوماً بلياليها، لم أذق طعاماً ولم أشرب شراباً من أجل جميع الخطايا التي ارتكبتم وما عملتم من الشر بين يدي الرب وأغضبتموه: لأني فرقت وخفت غضب الله وزجره أنه أراد إهلاككم، واستجاب الله لي في ذلك الزمان، وأما عجل خطاياكم الذي عملتموه فأخذته وأحرقته بالنار وسحقته وطحنته جداً حتى صار مثل التراب وطرحت ترابه في الوادي الذي ينزل في الجبل، وبالحريق والبلايا وبقبور أصحاب الشهوة، أغضبتم الرب، وإذ أرسلكم ربكم من رقام الحي وقال لكم: اصعدوا ورثوا الأرض التي أعطيكم، اجتنبتم قول الرب وأغضبتموه ولم تؤمنوا به ولم تسمعوا قوله، ولم تزالوا لله مسخطين منذ يوم عرفتكم، وصليت أمام الرب أربعين يوماً بلياليها، لأن الرب أمر بهلاككم، وقلت في صلاتي، يارب! لا تهلك شعبك وميراثك الذي خلصته بعظمتك وأخرجتهم من أرض مصر بيد عزيزة، ولكن اذكر عبيدك إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا تنظر إلى معصية هذا الشعب وإثمه وخطاياه، لئلا يقول سكان تلك الأرض التي أخرجتهم منها: إن الرب لم يقو أن يدخلهم الأرض التي قال لهم، وإنما أخرجهم من عندنا لبغضه لهم ليضلهم في البرية، وهو شعبك وميراثك الذي أخرجتهم بقوتك العظيمة وذراعك العزيزة، فقال لي الرب في ذلك الزمان أن أنقر لوحين من حجارة مثل اللوحين الأولين واصعد إلى الجبل إليّ واعمل تابوتاً من خشب الشمشاد- وفي نسخة: السنط- ونقرت اللوحين من الحجارة مثل اللوحين الأولين وصعدت إلى الجبل واللوحان في يدي، وكتب على اللوحين الكتاب الأول، وهي العشر الآيات التي كلمكم الرب بها من الجبل من النار يوم الجماعة، ودفعها الرب إليّ فأقبلت نازلاً من الجبل ووضعت اللوحين في التابوت الذي عملت وتركتهما فيه كما فيه أمر الرب، وارتحل بنو إسرائيل من ثروات بني يعقان وموسار، وتوفي هارون هناك، وصار أليعازر ابنه حبراً مكانه، وارتحلوا من هناك إلى جدجد، ومن جدجد إلى يطبت أرض مسايل الماء، في ذلك الزمان أفرز الرب سبط لاوي ليحملوا تابوت عهد الرب، وأن يقوموا أمام الرب ويخدموه وأن يبركوا باسم الرب إلى اليوم، ولذلك ليس لبني لاوي حصة مع بني إسرائيل في ميراثهم، لأن ميراثهم لله ربهم كما قال لهم، وأنا قمت بين يدي الرب في الجبل مثل الأيام الأولى أربعين يوماً بلياليها، واستجاب لي الرب في ذلك الزمان أيضاً، ولم يخذلكم الله ربكم ولم يفسدكم، وقال لي الرب: قم فارتحل وسر أمام الشعب ليدخلوا ويرثوا الأرض التي أقسمت لآبائهم أن أعطيهم، والآن يابني إسرائيل ما الذي يطلب الله ربكم منكم! ما يطلب الآن إلا أن تتقوا الله ربكم من كل قلوبكم وتسيروا في طرقه وتحبوه، وأن تعبدوا الله ربكم من كل قلوبكم وأنفسكم، وأن تحفظوا وصايا الله ربكم التي آمركم بها اليوم ليحسن إليكم لأن السماء وسماء السماء هما لله ربكم والأرض وجميع ما فيها، وبآبائكم وحدهم سر الرب وأحبهم وانتخب نسلهم من بعدهم وفضلهم على جميع الشعوب كاليوم، اختتنوا غلفة قلوبكم، ولا تقسوا رقابكم أيضاً، لأن الله ربكم هو إله الآلهة ورب الأرباب، إله عظيم جبار مرهوب لا يحابي ولا يرتشي، ينصف للأيتام والأرامل، ويحب الذي يقبل إليه برزقه طعاماً وكسوة، فأحبوا الذين يقبلون إليه واذكروا أنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، فاتقوا الله ربكم واتبعوه واعبدوه وأقسموا باسمه، لأنه إلهكم ومريحكم، وهو الذي أكمل لديكم العجائب التي رأت أعينكم، واعلموا أنه إنما أنزل آبائكم إلى مصر سبعين رجلاً، والآن فقد كثركم الله ربكم مثل نجوم السماء، أحبوا الله ربكم واحفظوا سننه وأحكامه كل الأيام، واعلموا يومكم هذا أنه ليس لبنيكم الذين لم يعاينوا ولم يعلموا ما رب الرب وعظمته ويده المنيعة وذراعه العظيمة وآياته وأعماله التي عمل بمصر وبفرعون ملك مصر وكل أرضه وما صنع بأجناد ملك مصر وما فعل بالخيل والمراكب وفرسانها الذين قلب عليهم ماء بحر سوف حيث خرجوا في طلبكم وأهلكهم الرب إلى اليوم وجميع ما صنع بكم في البرية حيث انتهيتم إلى هذه البلاد وما صنع بداثان وأبيرم ابني أليب بن روبيل اللذين فتحت الأرض فاها وابتلعتهما وبيتهما، وخيامهم وكل شيء هو لهم إذ كانوا قياماً على أرجلهم بين يدي جميع بني إسرائيل، ولكن قد رأت أعينكم جميع أعمال الله العظيمة التي عمل، فاحفظوا جميع الوصايا التي أمركم الله بها اليوم لتدخلوا الأرض التي تجوزون إليها لترثوها وتطول أعماركم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم ويرثها نسلهم- وستأتي تتمته إن شاء الله تعالى عند {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق} [يونس: 93]، وفيه من المتشابه قوله: فم الله، وإصبع الله، والأول- لكونه لا يجوز إطلاقه في شرعنا- مؤوّل بالكلام، والثاني بالقدرة.
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} ولما فرغ سبحانه من ذكر الوعد بالميقات المقصود به سعي الكليم عليه السلام فيما يهديهم إلى صراط الله، وذكر سعيهم فيما أضلهم عن الطريق باتخاذهم العجل، وكان ختام ذلك ما بدا من موسى عليه السلام من الشفقة على أخيه ثم على الكافة بأخذ الألواح عند الفراغ مما يجب من الغضب لله، رد الكلام على ذكر شيء فعله في الميقات مرادٍ به عصمتُهم في صراط الله بنقلهم- بمشاركته في سماعهم لكلام الله- من علم اليقين إلى عين اليقين بل حق اليقين شفقة عليهم ورحمة لهم، ليكون إخبارهم عما رأوا مؤيداً لما يخبر به، فيكون ذلك سبباً لحفظهم من مثل ما وقعوا فيه من عبادة العجل، ومع ذلك وقع منهم العصيان بطلب ما لا ينبغي لهم من الرؤية على وجه التعنت، فقال: {واختار} أي اجتهد في أخذ الخيار {موسى قومه} ثم أبدل منهم قوله: {سبعين رجلاً} إشارة إلى أن من عداهم عدم، لا يطلق عليهم اسم القوم في المعنى الذي أراده، وهو نحو ما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما «الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة» ثم ذكر علة الاختيار فقال: {لميقاتنا} أي فما أختار إلا من رأى أنه يصلح لما نريد من عظمتنا في الوقت الذي حددناه له، ودنا بهم من الحضرة الخطابية في الجبل هو وهارون عليهما السلام، واستخلف على بني إسرائيل يوشع بن نون عليه السلام، كل ذلك عن أمر الله له، وفي هذا الكلام عطف على قوله {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} [الأعراف: 142] فيكون الميقات هو الأول وهو ظلاهر التوارة كما مر بيانه في البقرة، ويجوز أن يكون عطفاً على قوله {واتخذ قوم موسى} [الأعراف: 148] أو على قوله {أخذ الألواح} [الأعراف: 154] وحينئذ يكون هذا الميقات غير الميقات الأول، ويؤيده ما نقل من أن هارون عليه السلام كان معهم، وكأنهم لما سمعوا كلام الله طلب بعضهم الرؤية جاعليها شرطاً لإيمانهم فقالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55] كما فعل النقباء الاثنا عشر حين أرسلهم لجس أحوال الجبارين فنقص أكثرهم، فأخذتهم الرجفة فماتوا، فخشي موسى عليه السلام أن يتهمه بنو إسرائيل في موتهم كنفس واحدة {فلما أخذتهم} أي أخذ قهر وغلبة {الرجفة} أي التي سببتها الصاعقة التي تقدمت في البقرة، فزلزلت قلوبهم فأماتتهم، وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن هؤلاء غير السبعين الذين قالوا {أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة} [النساء: 153] وأن أولئك كانوا قبل هؤلاء، فالظاهر أن سبب الرجفة ما رأوا عند سماع الكلام من جلال الله وعظيم هيبته من الغمام الذي تغشى الجبل والقتار والبروق وأصوات القرون وغير ذلك بحيث كادت الرجفة- وهي رعدة- تفرق أوصالهم بعضها من بعض {قال} أي موسى تملقاً لربه سبحانه {رب} أي أيها المحسن إليّ {لو شئت أهلكتهم} أي أمتّهم. ولما لم يكن إهلاكهم مستغرقاً للماضي، أدخل الجارفقال: {من قبل وإياي} أي قدرتك عليّ وعليهم قبل أن نقترب من هذه الحضرة المقدسة ونحن بحضرة قومنا كقدرتك علينا حين تشرفنا بها، وقد أسبلت علينا ذيل عفوك وأسبغت علينا نعمتك ونحن في غيرالحضرة فلم تهلكنا، فإنعامك علينا ونحن في حضرة القدس وبساط القرب والأنس أولى. ثم لما كان الحال مقتضياً لأن يقال: ألم تر إلى ما اجترؤوا عليه، وكان كأنه قال: إنما قال ذلك قوم منهم سفهاء، دل على ذلك بقوله استعطافاً: {أتهلكنا} وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رجفتهم كانت بسبب أنهم لم ينهوا عن عبادة العجل مع أنهم لم يرضوا بذلك. وكأن موسى عليه السلام عبر بهذه العبارة المقتضية لإهلاك الجميع لأنه جوز أنه كما أهلك هؤلاء يهلك غيرهم لتقصير آخر بسبب ذلك كعدم الجهاد مثلاً حتى يعمهم الهلاك {بما فعل السفهاء منا} فكأنه صلى الله عليه وسلم رضي أنه إن لم يشملهم العفو أن يخص العفو بمن لم يذنب بالفعل ويعفو عمن قصر بالسكوت، وعلى تقدير كون الميقات غير الأول يجوز أن يكون بعد اتخاذهم العجل كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما، فيكون موسى عليه السلام خاف أن يكون إهلاكهم فتنة لبني إسرائيل وسبباً لكفرهم كما كان إبطاؤه عنهم بزيادة عشرة أيام الثلاثين في الميقات الأول سبباً لاتخاذهم العجل، ويجوز حينئذ أن يراد بفعل السفهاء اتخاذ العجل، ويؤيده التعبير بالفعل دون القول وقد تقدم نقله عن ابن عباس رضي الله عنهما. ولما كان قوله هذا ربما أفهم رضاه بهلاك المذنبين، قال معرضاً بالسؤال في العفو عن الجميع: {إن هي} أي الفتنة التي أوقعها السفهاء {إلا فتنتك} أي ابتلاؤك واختبارك {تضل بها من تشاء} أي تظهر في عالم الشهادة من ضلاله ما كان معلوماً لك في عالم الغيب {وتهدي من تشاء} أي تظهر ما في علمك من ذلك. ولما أثبت أن الكل بيده، استأنف سؤاله في أن يفعل لهم الأصلح فقال: {أنت} أي وحدك {ولينا} أي نعتقد أنه لا يقدر على عمل مصالحنا غيرك، وأنت لا نفع لك في شيء من الأمرين ولا ضر، بل الكل بالنسبة إليك على حد سواء، ونحن على بصيرة من أن افعالك لا تعلل بالأغراض، وعفوك عنا ينفعنا وانتقامك منا يضرنا، ونحن في حضرتك قد انقطعنا إليك وحططنا رحال افتقارنا لديك. ولما اثبت أنه الفعال لما يشاء وأنه لا ولي لهم غيره، وكان من شأن الولي جلب النفع ودفع الضر، سبب عن كونه الولي وحده قوله بادئاً بدفع الضرر: {فاغفر لنا} أي امح ذنوبنا {وارحمنا} أي ارفعنا؛ ولما كان التقدير: فأنت خير الراحمين، عطف عليه قوله: {وأنت خير الغافرين*} أي لأن غيرك يتجاوز عن الذنب للثناء أو الثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة وهي صفة الحقد ونحوه، وأنت منزه عن ذلك، وكأنه أحسن العفو عنهم فقال عاطفاً على سؤاله فيه: {واكتب لنا} أي في مدة إحيائك لنا {في هذه الدنيا} أي الحاضرة والدنية {حسنة} أي عيشة راضية طيبة {وفي} الحياة {الآخرة} أي كذلك؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنا هدنا} أي تبنا {إليك} أي عما لا يليق بجنابك كما أمرتنا أن نخبر ما عساه يقع منا بالمبادرة إلى التوبة، فبدأ بذكر عزة الربوبية وثنى بذلة العبودية وهما أقوى أسباب السعادة، وهذا تلقين لهم وتعليم وتحذير من مثل ما وقعوا فيه وحث على التسليم، وكأنه لما كان ذنبهم الجهر بما لا يليق به سبحانه من طلب الرؤية، عبر بهذا اللفظ أو ما يدل على معناه تنبيهاً لهم على أن اسمهم يدل على التوبة والرجوع إلى الحق والصيرورة إلى الصلاح واللين والضعف في الصوت والاستكانة في الكلام والسكوت عما لا يليق، وأن يهودا الذي أخذ اسمه من ذلك إنما سموا به ونسبوا إليه تفاؤلاً لهم ليتبادروا إلى التوبة. ولما كان في كلامه عليه السلام إنكار إهلاك الطائع بذنب العاصي وإن كان ذلك إنما كان على سبيل الاستعطاف منه والتملق مع العلم بأنه عدل منه تعالى وله أن يفعل ما يشاء بدليل قوله {ولو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} [الأعراف: 155] استأنف سبحانه الإخبار عن الجواب عن كلامه على وجه منبه للجماهير على أن له التصرف المطلق بقوله: {قال عذابي} أي انتقامي الذي يزيل كل عذوبه عمن وقع به {أصيب به} أي في الدنيا والآخرة {من أشاء} أي أذنب أو لم يذنب {ورحمتي} أي إنعامي وإكرامي. ولما كان الإيجاد من الرحمة فإنه خير من العدم فهو إكرام في الجملة، قال: {وسعت كل شيء} أي هذا شأنها وصفتها في نفس الأمر وإن بلغ في القبائح ما عساه أن يبلغ، وهذا معنى حديث أبي هريرة في الصحيح «إن رحمتي سبقت- وفي رواية: غلبت- غضبي» سواء قلنا: إن السبق بمعنى الغلبة، أو قلنا إنه على بابه، إما الأول فلأن تعلق الرحمة أكثر، لأن كل ما تعلق به الغضب تعلقت به الرحمة بإيجاد وإفاضة الرزق عليه، ولا عكس كالحيونات العجم والجمادات وأهل السعادة من المؤمنين والملائكة والحور وغيرهم من جنود الله التي لا تحصى. ولما أعلم أن رحمته واسعة وقدرته شاملة، وكان ذلك موسعاً للطمع، سبب عن ذلك قوله ذاكراً شرط إتمام تلك الرحمة ترهيباً لمن يتوانى عن تحصيل ذلك الشرط: {فسأكتبها} أي أخص بدوامها بوعد لا خلف فيه لأجل تمكني بتمام القدرة مما أريد مبتوتاً أمرها بالكتابة {للذين يتقون} أي يوجد لهم هذا الوصف الحامل على كل خير ولا يخلّ بوسعها أن أمنع دوامها بعد الإيجاد من غيرهم، فإن الكل لو دخلوا فيها دائماً ما ضاقت بهم، فهي في نفسها واسعة ولكني أفعل ما أشاء. ولما ذكر نظرهم إلى الخالق بالانتهاء عما نهى عنه والائتمار بما أمر به، أتبعه النظر إلى الخلائق فقال: {ويؤتون الزكاة} ولعله خصها لأن فرضها كان في هذا الميقات كما تقدم في البقرة ولأنها أمانة فيما بين الخلق والخالق كما أن صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي كتبها لهم وشرط قبول أعمالهم باتباعه كذلك؛ ثم عمم بذكر ثمرة التقوى فقال مخرجاً لمن يوجد منه ذانك الوصفان في الجملة على غير جهة العموم: {والذين هم بآياتنا} أي كلها {يؤمنون} أي يصدقون بالقلب ويقرون باللسان ويعملون تصديقاً لذلك بالأكارن، فلا يكفرون ببعض ويؤمنون ببعض.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} ولما كان اليهود ربما ادعوا ذلك مكابرة، وأضح غاية الإيضاح بقوله: {الذين يتبعون} أي بغاية جهدهم {الرسول} ولما كان هذا الوصف وحده غير مبين للمراد ولا صريح في الرسالة عن الله ولا في كونه من البشر، قال: {النبي} أي الذي يأتيه الوحي من الله فبدأ بالأشراف وثنى بما خصه برسالة الله وكونه من الآدميين لا من الملائكة. ولما لم يتم المراد، قال مبيناً لأعظم المعجزات، وهي أن علمه بغير معلم من البشر: {الأمي} أي الذي هو مع ذلك العلم المحيط على صفة الأم، وأمة العرب لا يكتب ولا يقرأ ولا يخالط العلماء العلماء للتعليم منهم بل لتعليمهم، فانطبق الوصف على الموصوف مع التنويه بجلالة الأوصاف والتشويق إلى الموصوف، ولم يعطف لئلا يوهم تعداد الموصوف- والمعنى أني لا أغفر لأحد من بني إسرائيل ولا من غيرهم إلا إن اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا الاتباع تارة يكون بالقوة فقط لمن تقدم موته على زمانه، وتارة يخرج منة القوة إلى الفعل ممن لحق زمانه دعوته، فمن علم الله منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ولو عمل جميع الطاعات غير ذلك، وعرفه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق إليه عند مجيئه ولا ريب يتعلل في أمره بعلة، ولذلك أتبعه بقوله: {الذي يجدونه} أي علماء بني إسرائيل؛ ولما اشتد تشوف بذكر الوجدان، قال: {مكتوباً} ثم قرب الأمر بقوله: {عندهم} ثم بين أنه مما لا يدخله شك بقوله: {في التوراة والإنجيل} أي اللذين يعلمون أنهما من عند الله بصفته البينة كما تقدم بيانه عما عللوا عن تبديله منهما في البقرة {وإذا ابتلى إبراهيم ربه} [البقرة: 124] وفي آل عمران عند {إن الله اصطفى آدم ونوحاً} [آل عمران: 33] وفي النساء عند {ما قتلوه يقيناً} [النساء: 157] وفي التوارة أيضاً من ذلك في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب ولا يوجد فيكم من يطلب تعليم العرافين، ثم قال: لأن هذه الشعوب التي ترثونها كانت تطيع العرافين والمنجمين، فأما أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم، يل يقيم لكم نبياً من إخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي كما طلبتم إلى الله ربكم في حوريب يوم الجماعة وقلتم: لا تسمع صوت الله ربنا ولا تعاين هذه النار العظيمة لئلا نموت، فقال الرب: ما أحسن ما تكلموا، إني سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك، أجعل كلامي في فيه ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه- انتهى. هكذا رأيته مترجماً في بعض نسخ التوارة، ثم رأيت السموأل بن يحيى المغربي ترجمه في كتابه الذي ذكر فيه سبب إسلامه وكان من أكابر علمائهم بل العلماء فقال: نبياً أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك، بع فليؤمنوا- انتهى. وهو يعني أن يكون هذا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه من بني إسماعيل أخي إسحاق وقد أتى بشريعة مستقله لا تعلق لها بشريعة قبلها ولا توقف لها عليها، وذلك أن في العبارة كلمتين: مثل وإخوة، وحقيقة الأخ ابن أحد الأبوين، وهو لا يتأتى في أحد من أنبيائهم، فأقرب المجاز إلى حقيقته الحمل على أخي الأب، وهو إسماعيل عليه السلام، والشائع في الاستعمال في نحو ذلك على تقدير إرادة أحد منهم أن يقال: من أنفسهم، لا من إخوتهم، وحقيقة المثل المشارك في أخص الصفات، وأخص صفات موسى عليه السلام الرسالة والكتاب بشريعة مستقلة، ولم يأت منهم بعده من هو بهذه الصفة، لأن عيسى عليه السلام لم ينسخ من شريعة موسى عليه السلام إلا بعض الأحكام، وعلى تقدير دعوى ذلك فيه لكونه نسخ في الجملة وتسليم ذلك لا يتأتى قصده بهذا النص لوجهين: أحدهما أنه ليس من رجالهم إلا بواسطة أمه، فحق العبارة فيه: من بني أخواتهم- جمع أخت، وإذا أريد آباء أمه كان المجاز فيهم أبعد من المجاز في بني إسماعيل لما تقدم، ولا ينتقل إلى الأبعد إلا بقرينة تصرف عن الأقرب- والله أعلم. وقال السمؤال بن يحيى أحد أحبارهم في سبب إسلامه: إن اليهود يقولون: إن هذه البشارة نزلت في حق سموأل أحد أنبيائهم الذين بعد موسى لأنه كان مثل موسى عليه السلام في أنه من سبط لاوي، وقال: إنه رأى سموأل عليه السلام في المنام وأنه دفع إليه كتاباً فوجد فيه هذه البشارة فقال له: هنيئاً لك يا نبي الله ما خصك الله به! فنظر مغضباً وقال: أوإياي أراد الله بهذا يا ذكي!ما أفادتك إذن البراهين الهندسية، فقلت: يا نبي الله! فمن أراد الله بهذا؟ قال: الذي أراد في قوله: هوفيع ميهار فاران، وتفسيره إشارة إلى نبوة وعد بنزولها على جبال فاران، فعرفت أنه يعني المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأنه المبعوث من جبال فاران وهي جبال مكة، ثم قال: أو ما علمت ان الله لم يبعثني بنسخ شيء من التوارة، وإنما بعثني أذكرهم بها وأحيي شرائعها وأخلصهم من أهل فلسطين، قلت: بلى يانبي الله! قال: فأي حاجة بهم إلى أن يوصيهم ربهم باتباع من لم ينسخ دينهم ولم يغير شريعتهم، أرأيتهم احتاجوا إلى أن يوصيهم بقبول نبوة دانيال أو يرميا أو حزقيل؟ قلت: لا لعمري! فأخذ الكتاب من يدي وانصرف مغضباً فارتعبت لغضبه وازدجرت لموعظته واستيقظت مذعوراً. وقال في كتابه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود: إن الله يطلق الإخوة على غير بني إسرائيل كما قال في بني العيص بن إسحاق عليه السلام في الجزء الأول من السفر الخامس ما تفسيره: أنتم عابرون في تخم إخوتكم بني العيص فإذا كانوا بنو العيص إخوة لبني إسرائيل لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق، فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم عليهم السلام، قال: وفي الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة في ذكر البشارة لإبراهيم عليه السلام ما تفسيره: وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك، ها قد باركت فيه وأثمره وأكثره جداً جداً وقال: إن جداً جداً بلسان العبراني مفسر «بماد ماد» وهاتان الكلمتان إذا عددنا حروفها بحساب الجمل كان اثنتين وتسعين، وذلك عدد حساب حروف اسم محمد صلى الله عليه وسلم، يعني فتعين أن يكون مراداً بها لأنها في البشارة بتكثير إسماعيل عليه السلام، وليس في أولاده من كثره الله به وعدد اسمه هذا العدد غير محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وإنما جعل ذلك في هذا الموضع ملغزاً، لأنه لو صرح به لبدلته اليهود أو أسقطته من التوراة كما عملوا في غيره- انتهى. وفي آخرة فصول التوراة: دعا موسى عبد الله لبني إسرائيل قبل وفاته قال: أتى ربنا من سيناء وشرق لنا من جبل ساعير وظهر لنا من جبل- وفي نسخة: جبال فاران، معه ربوات الأطهار على يمينه، أعطاهم وحببهم إلى الشعوب وبارك على جميع أطهاره- وهم يتبعون آثارك ويتناقلون كلماتك. وفي نسخة بدل: معه ربوات الأطهار- إلى آخره: وأتى من ربوات القدس بشريعة نوره من يمينه لهم، واصطفى أيضاً شعباً فجميع خواصه في طاعتك وهم يقفون آثارك وسيتناقلون كلماتك انتهى. فالذي ظهر من جبال فاران هو محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم معترفون أنها مكة، ومعه ربوات، أي جماعات الأطهار، وأمته حببت إلى الشعوب، لأن كلاًّ من فريقي أهل الكتاب يقدمهم على الفريق الآخر، ولم يقبل أحد جميع كلام موسى عليه السلام ويتبع جميع آثاره في بشارته ممن يأتي بعد غيرهم- هذا وأما الإنجيل فالبشائر فيه أكثر وقد تقدم كثير منها، وهي تكاد أن تكون صريحة في سورة النساء في قصة رفعه عليه السلام، ومما فيه أيضاً ما في إنجيل متى وغيره وأغلب السياق له: كثيراً أولون يصيرون آخرين وآخرون يصيرون أولين، يشبه ملكوت السماوات إنساناً رب بيت حرج بالغداة يستأجر فعلة الكرمه فشارط الأكرة على دينار واحد في اليوم وأرسلهم إلى كرمه، ثم خرج في ثالث ساعة فأبصر آخرين قياماً في السوق بطالين، فقال لهم: امضوا أنتم إلى كرمي وأنا أعطيكم ما تستحقون، فمضوا، وخرج أيضاً في الساعة السادسة والتاسعة فصنع كذلك، وخرج في الحادية عشرة فوجد آخرين قياماً، فقال لهم: ما قيامكم كل النهار بطالين؟ فقالوا له: لم يستأجرنا أحد، فقال لهم: امضوا أنتم بسرعة إلى الكرم وأنا أعطيكم ما تستحقون، فلما كان المساء قال رب الكرم لوكيله: ادع الفعلة وأعطهم الأخرة وابدأ بهم من الآخرين إلى الأولين، فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة فأخذوا دينار كل واحد، فجاء الأولون فظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا دينار كل واحد، لما أخذوا تعمقوا على رب البيت وقالوا إن هؤلاء الآخرين عملوا ساعة واحدة، جعلتهم أسوتنا ونحن حملنا ثقل النهار وحرّه! فقال لواحد منهم: ياصاحب! ما ظلمتك، ألست بدينار شارطتك، خذ شيئك وامض، أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك، أو ما لي أن أفعل ما أردت بمالي؟ وأن عينك شريرة، كذلك يكون الآخرون أولين، والأولون آخرين، ما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين، وقال: ودخل إلى الهيكل فجاء إليه رؤساء النكهة وشيوخ الشعب وقالوا له وهو يعلم: بأيّ سلطان تفعل هذا؟ ومن اعطاك هذا السلطان؟ أجاب يسوع وقال لهم: أنا أسألكم عن كلمة واحدة، فإن أنتم قلتم لي قلت لكم بأي سلطان أفعل هذا، معمودية يوحنا من أين هي؟ من السماء أو من الناس؟ ففكروا في نفوسهم قائلين: إن قلنا: من السماء قال لنا: لماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا: من الناس، خفنا من الجمع، وقال لوقا: وإن قلنا من الناس فإن جميع الشعب يرجمنا لأنهم قد تيقنوا أن يوحنا نبي؛ وقال متى: لأن يوحنا كان عندهم مثل نبي؛وقال مرقس: لأن جميعهم كان يقول: إن يوحنا نبي؛ قال متى: فقالوا: لا نعلم، فقال: ولا أنا أيضاً أعلمكم بأي سلطان أفعل هذا. قال مرقس: وبدأ يكلمهم بأمثال قائلاً؛ قال متى: ماذا تظنون بإنسان كان له ابنان فجاء إلى الأول فقال له: يابني! اذهب اليوم واعمل في الكرم، فأجاب وقال: ما أريد- وبعد ذلك ندم ومضى، جاء الى الثاني وقال له مثل هذا فأجاب وقال: نعم يارب! أنا امضي- و- لم يمض، من منهما فعل إرادة الأب؟ فقالوا له: الأول، فقال لهم يسوع: الحق أقوال لكم! إن العشارين والزنا يسبقونكم إلى ملكوت الله، جاءكم يوحنا بطريق العدل فلم تؤمنوا به، والعشارون والزناة آمنوا به، فأما أنتم فرأيتم ذلك ولم تندموا أخيراً لتؤمنوا به. اسمعوا مثلاً آخر: إنسان رب بيت غرس كرماً وأحاط به سياجاً وحفر فيه معصرة وبنى فيه برجاً ودفعه إلى فعلة وسافر- قال لوقا: زماناً كثيراً- فلما قرب زمان الثمار أرسل عبيده إلى الفعلة ليأخذوا ثمرته، فأخذ الفعلة عبيده، ضربوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً، فأرسل أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين فصنعوا بهم كذلك، وفي الآخرة أرسل إليهم ابنه وقال: لعلهم يستحيون من ابني، فلما رأى الفعلة الابن قالوا: هذا هو الوارث تعالوا نقلته ونأخذ ميراثه، فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه، فإذا جاء رب البيت ماذا يفعل بهؤلائك الفعلة؟ قالوا له: يهلكهم ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته في حينه، قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب أن الحجر الذي رذله البناؤون صار رأس الزاوية، هذا كان من قبل الرب وهو عجب في أعيننا، من هذا أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمم يصنعون ثمرتها، ومن سقط على هذا الحجر ترضض، ومن سقط عليه طحنه. فلما سمع رؤساء الكهنة والفريسيين امثاله علموا انه يقول من أجلهم، فهموا أن يمسكوه وخافوا من الجموع لأنه كان عندهم مثل نبي. وقال أيضاً: يشبه ملكوت السماء رجلاً صنع عرساً لابنه، فأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العرس، فلم يريدوا أن ياتوا، ثم أرسل عبيداً آخرين وقال: قولوا المدعوين: إن طعامي معد، وعجولي المعلوفة قد ذبحت وكل شيء معد، فتعالوا إلى العرس، فتكاسلوا وذهبوا فمنهم إلى حقله ومنهم إلى تجارته والبقية أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم، فلما بلغ الملك غضب وأرسل جنده وأهلك هؤلائك القتلة وأحرق مدينتهم؛ حينئذ قال لعبيده: أما العرس فمستعد، والمدعوون فغير مستحقين، اذهبوا إلى مسالك الطريق وكل من وجدتموه ادعوه إلى العرس، فخرج أولئك العبيد إلى الطرق فجمعوا كل من وجدوا أشراراً وصالحين، فامتلأ العرس من المتكئين، فلما دخل الملك لينظر إلى المتكئين رأى هناك رجلاً ليس عليه ثياث العرس فقال: يا هذا! كيف دخلت هاهنا وليس عليك ثياب العرس؟ فسكت، حينئذ قال الملك للخدام: شدوا يديه ورجليه وأخرجوه إلى الظلمة البرانية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، ما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين. وعبارة لوقا عن ذلك: إنسان صنع وليمه عظيمة ودعا كثيراً فأرسل عبده يقول للمدعوين يأتون فهو ذا كل شيء معد، فبدؤوا بأجمعهم يستعفون، فالأول قال: قد اشتريت كرماً والضرورة تدعوني إلى الخروج ونظره، فأسألك أن تعفيني فما أجيء، وقال آخر: قد اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماض أجربها، أسألك أن تعفيني فما أجيء، وقال آخر: قد تزوجت امرأة، لأجل ذلك ماأقدر أجي، فأتى العبد وأخبره سيده، فحينئذ غضب رب البيت وقال لعبده: اخرج مسرعاً إلى الطريق وشوارع المدينة وادع المساكين والعور والعميان والمقعدين، اخرج الى الطريق والسياجات وألح عليهم حتى يدخلوا ويمتلئ بيتي ولا أجد من هؤلائك يذوق لي عشاء. وقال يوحنا: الحق أقول لكم! إن من لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف، بل يتسور من موضع آخر فإن ذلك لص، الذي يدخل من الباب هو راعي الخراف، والبواب يفتح له، والخراف تسمع له، وكباشه تتبعه لأنها تعرف صوته، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف، فأما الآخر الذي ليس براع وليست الخراف له، فإذا راى الذئب قد أقبل يدع الخراف ويهرب، فيأتي الذئب ويخطف ويبدد الخراف، وإنما يهرب الأجير لأنه مستأجر وليس يشفق على الخراف، أنا الراعي الصالح، ولي كباش أخر ليست من هذا القطيع، فينبغي لي أن آتي بهم أيضاً، فتكون الرعية واحدة، فوقع أيضاً بين اليهود خلف من أجل هذا القول وقال كثير منهم: إن به شيطاناً قد جن، فما استماعكم منه! وقال آخرون: إن هذا ليس كلام مجنون. وفي أوائل السيرة الهشامية: قال ابن إسحاق: وقد كان فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أثبت يحنس الحواري لهم حين نسخ لهم الإنجيل أنه قال: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لمن يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزوني وأيضاً للرب، ولكن لابد من أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجاناً- أي باطلاً، فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس، هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس، هذا الذي من عند الرب خرج، فهو شهيد علي وأنتم أيضاً لأنكم قديماً كنتم معي، هذا قلت لكم لكيما لا تشكوا. فالمنحمنا بالسريانية محمد، وهو بالرومية البارقليطس- انتهى. ولما دل سبحانه عليه صلى الله عليه وسلم بأوصافه في نفسه وفي الكتب الإلهيه، دل عليه بشريعته فقال: {يأمرهم بالمعروف} أي بكل ما يعرفونه من التوراة والإنجيل وما يعرفونه فيهما أنه ينسخ شرعهم ويأتي من عند الله بهذا المذكور {وينهاهم عن المنكر} أي عن كل ما ينكرونه فيهما، فثبتت بذلك رسالته، فأنه لكونه أمياً لا يعرف المعروف والمنكر فيهما إلا وهو صادق عن علام الغيوب، ثم شرع بعد ثبوت رسالته يبين لهم ما في رسالته من المنة عليهم بالتخفيف عنهم بإباحة ما كانوا قد حملوا ثقل تحريمه، فكانوا لا يزالون يعصون الله بانتهاك حرماته والإعراض عن تبعاته فقال: {ويحل لهم الطيبات} أي التي كانت حرمت عليهم عقوبة لهم كالشحوم {ويحرم عليهم} وعبر بصيغة الجموع إشارة إلى أن الخبيث أكثر من الطيب في كل مائي الأصل فقال: {الخبائث} أي كل ما يستخبثه الطبع السليم أو يؤدي إلى الخبث كالخمر المؤدية إلى الإسكار والرشى المؤدية إلى النار بعد قبيح العار {ويضع عنهم إصرهم} أي ثقلهم الذي كان حمل عليهم فجعلهم لثقلة كالمحبوس الممنوع من الحركة {والأغلال التي كانت عليهم} أي جميع ما حملوه من الأثقال التي هي لثقلها وكراهة النفوس لها كالغل الذي يجمع اليد إلى العنق فيذهب القوة {فالذين آمنوا به} أي أوجدوا بسببه الأمان من التكذيب بشيء من آيات الله {وعزروه} أي منعوه من كل من يريده بسوء وقووا يده تقوية عظيمة على كل من يكيده: قال في القاموس: والتعزير: ضرب دون الحد أو هو أشد الضرب، والتفخيم والتعظيم ضد، والإعانة كالعزر والتقوية والنصر- انتهى. وقال عبد الحق: العزر: المنع، تقول: عزرت فلاناً عن كذا، أي منعته- انتهى. فالمادة كلها تدور على هذا المعنى والضرب واضح فيه التعظيم وما في معناه منع من يكيده {ونصروه} أي أيدوه وقمعوا مخالفة {واتبعوا النور} أي الوحي من القرآن والسنة {الذي أنزل معه} أي مصاحباً إنزاله إرساله، سمي نوراً لأنه يجعل المقتدي به ببيان طريق الحق كالماشي في ضوء النهار {أولئك هم} أي خاصة {المفلحون*} أي الفائزون بكل مأمول. ولما تراسلت الآي وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام وبيان مناقبه العظام ومآثره الجسام، كان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصباً وأعظمهم رتبة، فساق سبحانه هذه الآيات هذا السياق على هذا الوجه الذي بين أن أعلاهم مراتب وأزكاهم مناقب الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلاً، وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل اهتماماً به وتعجيلاً له مع ما سيذكر مما يظهر أفضليته ويوضح أكمليته بقصته مع قومه في مبدإ أمره وأوسطه ومنتهاه في سورتي الأنفال وبراءة بكمالها. ذكر شيء من الآصار التي كانت عليهم وخففت عنهم لو دخلوا في الإسلام ببركته صلى الله عليه وسلم غير ما أسلفته في آخر البقرة عند قوله تعالى {ولا تحمل علينا إصراً} [البقرة: 286] وفي المائدة عند قوله تعالى {وليحكم أهل الإنجيل} [المائدة: 47] قال في السفر الثاني من التوراة: وقال الرب لموسى: اعمد فخذ طيباً- إلى أن قال: وليكن معجوناً طيباً للقدس ودقه واسحقه وبخر منه قدام تابوت الشهادة في قبة الزمان لأواعدك إلى هناك، ويكون عندكم طهراً مخصوصاً، وأيما رجل اتخذ مثله ليتبخر به فليهلك ذلك الرجل من شعبه؛ وقال في الثالث: ثم كلم الرب موسى قال له؛كلم هارون وبنيه وجماعة بني إسرائيل وقل لهم؛ هذا ما أمرني به الرب ان أخبركم، أي رجل من بني إسرائيل يذبح في محلة بني إسرائيل أو يذبح خارجاً من العسكر ولا يجيء بقربانه إلى باب قبة الزمان ليقربه يعاقب ذلك الرجل عقوبة من قتل قتيلاً؛ وكلم الرب موسى وقال له: كلم هارون وقل له: من كان عيب من نسلك- أي من الأحبار- في جميع الأحقاب لا يدنو من مقدسي، لا يقرب قربانا ً مثل الرجل الأعراج والأعمى والأفطس والأصمع الأذن أو رجل مسكور اليد أو رجل قيصر أو منحن أو رجل قد أشتر حاجباه أو أجهر العين أو من في عينه بياض أو أبرص أو أحدب أو رجل له خصية واحدة، أي رجل كان فيه عيب من نسل هارون الكاهن لا يدنو من المذبح ليقرب قربان الرب لأن فيه عيباً؛ وقال في السفر الرابع وهو من الحجج على أن التوراة لم تنزل جملة: وكلم الرب موسى في برية سيناء في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الأول وقال: تعمل بنو إسرائيل الفصح في وقته في أربعة عشر يوماً من هذا الشهر- إلى أن قال: وعملوا الفصح، والقوم الذين تنجسوا بأنفس الناس لم يقدروا أن يعملوا الفصح فقالوا: قد تنجسنا بأنفس الناس، أي مسسنا ميتاً، فهل يحرم علينا عمل الفصح؟ فقال لهم موسى: قوموا في مواضعكم حتى تسمعوا ما يأمر الرب فيكم، وكلم الرب موسى وقال له: قل لهم: الرجل إذا تنجس منكم لميت أو كان في مكان بعيد يعمل فصحاً للرب في أربعة عشر يوماً من الشهر الثاني، ومن كان زكياً ولم يكن مسافراً ولم يعمل الفصح في وقته تهلك تلك النفس من بين بني إسرائيل، وقال قبل ذلك: وكلم الرب موسى وقال له: مر بني إسرائيل أن يخرجوا من عسكرهم كل من به برص أو سلس وكل من كان نجساً بنفسه ذكراً كان أو أنثى، يخرجونهم خارج العسكر، ولا تنجسوا عساكركم لأني نازل بينكم؛ ثم ذكر: الرجل إذا غار على امرأته واتهمها، إنه يأتي الكاهن فيقيمها ويلقنها لعناً، فإذا قالته كتبه وأخذ ماء مقدساً في وعاء فخار ووضع فيه من الترب الذي أسفل المذبح وسقاه لها، فإن كانت خانت انتفخ بطنها وفسد فخذاها وتصير لعنة في شعبها، وإن كانت لم تخن تطهرت وولت ذكراً، ثم أمرهم بذبح بقرة وإحراقها حتى تصير رماداً، ويغسل الحبر الذي ذبحها ثيابه ويديه، فكل من يقترب إلى ميت أو ميتة يكون نجساً سبعة أيام، وينضح عليه من ذلك الماء في اليوم الثالث واليوم السابع ويتطهر، وإن لم يرش عليه كذلك فلا يتطهر، وكل من دنا من إنسان ميت ولا ينضح عليه من ذلك الماء فقد نجس جناب الرب، فلتهملك تلك النفس لأنه لم ينضح عليه من ماء الرش شيء، فلذلك يكون نجساً ولا يفارقه نجاسته، وهذه سنة الإنسان إذا مات في قبة الزمان، فكل من كان هناك في القبة وكل من يدخلها يكون نجساً سبعة أيام، وكل وعاء يكون مكشوفاً غير مغطى نجساً، وكل من دنا من قتيل أو يمس عظم إنسان أو يدخل القبر يكون نجساً سبعة أيام ويؤخذ للمنتخس من رماد البقرة ويصيب في وعاء ماء عذب وينضح منه- على كيفية ذكرها- ليكون زكياً، ومن تنجس ولم يرش عليه من ذلك الماء تهلك نفسه من جماعتها، ومن دنا من ماء الرش يكون نجساً إلى الليل، ومن اقترب إلى ذلك الذي تنجس يكون نجساً إلى الليل- ثم قال: ثم كلم الرب موسى وقال له: مر بني إسرائيل وقل لهم: قرابتي يكون محفوظة في أوقاتها- ثم ذكر له كثيراً من أمر القرابين، ثم ذكر من أوقاتها يوم السبت ورؤوس الشهور، ثم قال: وفي أربع عشرة ليلة من الشهر الأول هو فصح الرب، ويوم خمسة عشر اتخذوه عيداً، وكلوا الفطير سبعة أيام، وصيّروا أول يوم من السبعة مميزاً مطهراً لا تعملوا فيه عملاً، واليوم السابع يكون مميزاً مطهراً لا تعملوا فيه عملاً وأول يوم من الشهر السابع يكون مختصاً مطهراً، لا تعملوا فيه عملاً مما يعمل، بل صيروه يوماً يهتف فيه بالقرون، وقربوا ذبائح كاملة- ثم وصفها وكذا غيره من الأيام ثم قال: وكذلك فافعلوا في أول الشهر أبداً، وفي عشر من الشهر السابع اجعلوه يوماً مختصاً، مطهراًَ لا تعملوا فيه عملاً، ولكن قربوا، ويوم خمسة عشر من هذا الشهر السابع، ويكون مدعواً، لا تعملوا فيه عملاً، بل اتخذوه عيداً للرب سبعة أيام؛ ثم قال: حتى إذا كان اليوم الثامن فاحتفلوا بأجمعكم، ولا تعملوا شيئاً مما يعمل، وقربوا قرابين كاملة- وأطال في ذلك جداً على كيفيات حفظها فضلاً عن العلم بها في غاية المشقة؛ ثم قال قربوا للرب في أيام أعيادكم غير نذوركم وغير خواصكم التي تختصون للرب؛ ثم قال مخاطباً للمجاهدين في مدين: وأما أنتم فانزلوا خارجاً من العسكر سبعة أيام، كل من قتل نفساً أو مس قتيلاً ينضح عليه من ماء التطهير في الثالث والسابع- وأمرهم بأشياء من الآصار ثم قال: وتطهروا بالماء في اليوم السابع، ثم بعد ذلك تدخلون العسكر؛ ثم قال في الخامس: هذه السنن والأحكام التي يجب عليكم أن تعملوها وتحفظوها في الأرض التي يعطيكم الله ربكم ميراثاً كل أيام حياتكم، خربوا كل البلدان التي ترثونها، والآلهة التي عبدها أهلها فيها على الجبال الرفيعة والآكام وتحت كل شجرة كبيرة تظل، واستأصلوا مذابحهم وكسروا أنصابهم، وأحرقوا أصنامهم المصنوعة وأوثانهم المنحوته، ولا تصنعوا أنتم مثل ما صنع أولئك في عبادتكم الله ربكم، ولكن المواضع التي يختار الله ربكم أن تصيِّروا اسمه فيها من جميع قبائلكم، وافحصوا عن محلته، وانطلقوا بجمعكم بقرابينكم الكاملة، كلوا هناك أمام الله ربكم أنتم وأهاليكم، ولا تعملوا كما يعمل هاهنا اليوم أي قبل الوصول إلى أرض الميراث؛ ثم قال: انظروا لا تقربوا قرابينكم في المواضع التي تريدون، لكن في المواضع الذي يختار الرب، في حد سبط من أسباطكم؛ ثم قال: وإذا بنيت بيتاً جديداً فحجر على البيت لئلا يقع إنسان من فوقه فليلزمك دمه، ولا تزرعن في حرثك خلطاً لئلا تفسد غلة زرعك وكرمك، لا تحرث بالثور والحمار جميعاً، ولا تنسج ثوباً من قطن وصوف جميعاً، اعمل خيوطاً في أربعة أطراف ردائك الذي تلبس؛ ثم قال: وإن وجد رجل فتاة عذراء لم تملك، فيظفر بها ويضاجعها ويوجد، يدفع إلى أبيها خمسين مثقالاً من فضة، وتصير امرأته لأنه فضحها، ولا يقدر أن يطلقها حتى يموت. ولا يدخل ولد الزنا إلى بيت الرب، ولا يدخل نسله من بعده إلى عشرة أحقاب، ولا يدخل عماني ولا مؤابيّ إلى بيت الرب، ولا يدخل نسلهما من بعدهما إلى عشرة أحقاب، لأنهم لم يضيفوكم ولم يعشوكم بالخبز والماء حيث خرجتم من أرض مصر، ولأنهم اكتروا بلعام بن بعور من فتورام من بين النهرين- وهي حران- ليلعنكم، ولم يحب الرب أن يسمع قول بلعام بن بعور، وقلب الله لعنه إلى الدعاء، لأن الله ربكم أحبكم، فلا تريدوا لهم الخير أيام حياتكم، لا تدفعوا الأدومي عنكم لأنه أخوكم، ولا تبعدوا المصري أيضاً لأنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، وإن كان في معسكركم رجل أصابته جنابة، يخرج خارج العسكر، ولا يجلس بين أصحابه في العسكر، وإذا كان العشيّ فليستحم بالماء، وإذا غابت الشمس وأمسى يدخل العسكر، وليكن لكم موضع معروف خارج العسكر تخرجون إليه إلى الخلاء، ويكون على سلاحكم وتد من حديد، فإذا جلستم للخلاء احفروا موضعاً للخلاء وغطوا رجيعكم، لأن الله ربكم معكم في العسكر لينقذكم ويدفع عنكم أعداءكم، فليكن عسكركم مطهراً مزكياً لئلا يرى فيكم أمراً قبيحاً، فيرتفع عنكم ولا يصحبكم؛ ثم قال: وإن سكن أخوان جميعاً ومات أحدهما ولم يخلف ولداً، لا تتزوج امرأته من رجل غريب، ولكن يتزوج بها وارثه ويقيم زرعاً، وأول ولد تلد ينسب إلى أخيه الذي مات، ويقال إنه ابن ذلك الذي مات ولم يخلف ولداً، لئلا يبيد اسمه من بني إسرائيل، وإن لم يعجب الرجل أن يتزوج امرأة أخيه، ترتفع امرأة أخيه إلى المشيخة فيدعونه، فإن ثبت على قوله تتقدم إليه المرأة بين يدي المشيخة وتخلع خفيه من قدميه وتبصق في وجهه وتقول: كذلك يصنع بالرجل الذي لا يحب أن يبني بيتاً لأخيه، ويدعى اسمه بين بني إسرائيل: صاحب خلع الخفين، وإن شاجر الرجل صاحبه فدنت امرأة أحدهما لتخلص زوجها من الذي يقاتله، فتمد يدها إلى مذاكير الرجل، يقطع يدها ولا يشفق عليها ولا يترحم- انتهى. وكل هذه الآصار على النصارى أيضاً ما لم يرد في الإنجيل نسخها.
|